| تفاصيل الخبر

blog-img

نظرةٌ إلى مستقبل العراق والعالم العربي في عصر الثورة الصناعية الرابعة

الآفاق والتحديات الاجتماعية-الاقتصادية في ظل طفرة الذكاء الإصطناعي والأتمتة

 

فراس أبي مصلح

أيلول 2023

 

مقدمة

 

أتاح التطوّر النوعي للتكنولوجيا الرقمية، وتحديداً "التعلّم (الذاتي) العميق" للآلات، الذي تغذّيه البيانات الضخمة، ظهور الذكاء الإصطناعي. يشكّل الأخير الظاهرة الأبرز في طفرة التكنولوجيات الأحدث، ومنها تطوّر المستشعرات وإنترنت الأشياء والروبوتات وظهور الطباعة ثلاثية الأبعاد، وحاصلها الإجمالي ثورة الأتمتة (Automation) الزاحفة في كل القطاعات الإقتصادية وفي مجمل الأنشطة البشرية، والتي تحوّل ليس فقط البُنى والديناميات الإجتماعية-الإقتصادية، بل ربما أيضاً الطبيعة الإنسانية نفسها... تلك هي "الثورة الصناعية الرابعة" التي تفتح أمام البشرية آفاقاً تبدو لامتناهية، وتطرح في الآن نفسه تحدّياتٍ مصيريةٍ قد تكون غير مسبوقةٍ تاريخياً.

في خضمّ سيل المعلومات والآراء حول هذا الموضوع، عبر الدعاية والإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي، نجد أن المواقف الحدّية هي الأبرزً: في الجانب العلمي-التقني من المسألة، فإن تسارع التطوّرات النوعية في هذا المجال يُحدِث الدوار حتى عند أهل الإختصاص والخبرة، فيبعث النشوة والتوقّعات اليوتوبية لدى بعض، ويبعث في المقابل القلق الوجودي وخيالات نهاية الحضارة الإنسانية لدى البعض الآخر. والصورة نفسها تقريباً لدى أهل الإختصاص في الجانب الإجتماعي-الإقتصادي من المسألة: ثمة من يَعِد بالرخاء العميم بفضل طفرة التكنولوجيات الأحدث وتطبيقاتها "المتناقصة الأكلاف" في القطاعات كافة، وذلك بعد "فترةٍ" عسيرةٍ من التكيّف، فيما يهجس البعض الآخر "بجيوش العاطلين عن العمل"، حتى على المدى الطويل، وبتوسّع الهوة المعرفية والتكنولوجية والإنتاجية بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية، وتوسّع الفروقات في الثروة والمداخيل بين الشرائح الإجتماعية داخل الدول قاطبة، لتعمّ العالم المزيد من الإضطرابات الإجتماعية والصراعات بمختلف أشكالها.

لا بد إذاً من محاولة إثارة النقاش العلمي الهادئ والهادف حول مجمل هذه القضية، إنطلاقاً من موقعنا هنا في العراق، في العالم العربي، أو في عالم الدول النامية، في الإطار الأوسع. أما الهدف من هذا النقاش فهو، أولاً، تبيان المقترحات العلمية والعملانية حول تطبيقاتٍ تكنولوجية يُحتمَل أن تحدث تحوّلاتٍ نوعية في كافة القطاعات في بلداننا؛ وثانياً، تلمّس معالم السياسات العامة الإجتماعية-الإقتصادية الضرورية لإدارة التحوّل إلى عصر الأتمتة الشاملة المدعومة بالذكاء الإصطناعي وسائر التكنولوجيات ذات الصلة، والتي ستزيل ملايين الوظائف وتخلق ملايين أقل من الوظائف الجديدة عالية التخصّص وفي قطاعاتٍ محدّدة. إن مواجهة موجة البطالة التي ستجتاح العالم بلا شك هي أولوليةٌ سياساتيةٌ قصوى، فضلاً عن إعادة طرح التحدّي القديم-الجديد الأساس، تحدّي التنمية واللحاق بالعصر، والذي بات أكثر إلحاحاً في زمن الثورة الصناعية الرابعة.

من هذا المنطلق، حاورنا البروفيسور ضياء الجُمَيلي، أستاذ الذكاء الإصطناعي في جامعة جون مورس البريطانية، والمستشار العلمي والأكاديمي لدولة رئيس الوزراء العراقي، وأيضاً البروفيسور محمد حمادة، أستاذ الإقتصاد في الجامعة الأمريكية في بغداد، آملين أن تتوسّع دائرة النقاش وتثمر خلاصاتٍ ونتائج صالحة كمقترحاتٍ سياساتية.

 

 

الذكاء الإصطناعي يحوّل قطاع التعليم

 

"أتوقع أنه خلال السنوات الخمسون المقبلة، أو لغاية سنة 2050 (على الأقل)، ستكون ثمة وظائف عشر رئيسية، وسيكون الذكاء الاصطناعي هو العمود الفقري لها،" يقول د. الجُمَيلي، معتبراً أن الأهم من بينها هو التعليم: "أتوقع أن يتغيّر التعليم بشكلٍ كامل بدخول الذكاء الإصطناعي جميع المجالات وفي حياة كل شخص. سيتغيّر الجميع، من الفلّاح إلى الطبيب."

فكيف يمكن للذكاء الإصطناعي أن يحوّل قطاع التعليم؟ "سيصبح التعليم مخصَّصاً لكل طالبٍ على حدة (personalized)؛ ما يعني أن كل الطلاب في الصفوف الدراسية لا يحصلون على التعليم نفسه، بل سيتفاوت تعليم مختلف المواد بالنسبة لكل طالب، حيث يتم التركيز على المواد التي يبرع فيها الطالب، ويُبذَل الجهد لإيصال الطالب إلى الحد الأدنى أو المستوى المقبول في المواد لا يبرع فيها"، وهي تلك التي لن يتخصّص فيها مستقبلاً، يشرح د. الجميلي، مشيراً إلى أن "طرقاً مختلفاً ستبرز في التعليم، بدأت مؤشراتها مع كوفيد-19،" أي التعلّم عن بُعد، بما في ذلك عبر وسائل غير تقليدية، كاليوتيوب، خاصةً لتعلّم التكنولوجيا والمهارات العملية.

يعتقد د. الجميلي أن هذا التحوّل في قطاع التعليم سيُحدِث "توزيعاً للثروة،" إذ "بات بالإمكان دراسة الشيء نفسه في أي مكان من العالم، بفضل التكنولوجيا." لكن ألا يعني ذلك أننا نفترض أن التعليم سيتساوى في مختلف بقاع العالم من حيث النوعية والتكلفة والأسعار ووصول مختلف الشرائح الاجتماعية إليه؟ "نعم، لأن التعليم لن يكون ذلك التقليدي، فالمُحاضر سيصبح دليلاً فقط، كجهاز المحاكاة، خاصة في التعليم العالي،" يجيب د. الجميلي، مضيفاً، فيما خص التكلفة: "لن تكون الشهادة هي الواسطة لنيل الوظائف، بل المهارات. سندرس لنيل المهارات، لا الشهادات، ولن تعود الشهادة مرتبطة بالبلد" حيث يتواجد الطالب. يشرح د. الجميلي فرضيته كالتالي: "ستنظر الثورة الصناعية الرابعة إلى الزبدة عند الشعوب،" أي إلى النخبة من "الأشخاص الذين يمتلكون مهارات حل المشكلات (وعنصر) الإبداع، وليس فقط التدريب... رسوم الجامعات ستقلّ، لتزايد أعداد الجامعات، وستقلّ أيضاً تكاليف كثيرة أخرى،" كتكاليف التدريب. لتجسيد هذه الفكرة، يتحدّث د. الجميلي عن رؤيته "طفلاً في العراق له 13 سنة، نال جائزةً في صنع الروبوتات في مسابقةٍ في قطر؛ كان الطفل يدرّب عبر الإنترنت أطفالاً عرب على بناء الروبوتات. لم يكن ذلك ليتحقّق لولا إنتشار التكنولوجيا وإمكانية الوصول إليها."  

"إذا وُجدَت البنى التحتية اللازمة،" من شبكة الإنترنت والحواسيب وغيرها، "نستطيع أن نجد هذه الزبدة (من المجتمع). أي أحد يستطيع العمل على البرامج من أيّ مكانٍ على الأرض مع شركةٍ كمايكروسوفت، مثلاً، وبالتالي سيحصل توزيع الثروة،" يقول د. الجميلي، ضارباً كمثال: "لدينا الآن أناسٌ في بنغلادش والهند يطوّرون البرامج لصالحنا نحن في بريطانيا؛ فهُم لديهم إنتباهٌ عالٍ للتفاصيل، ومهارةٌ عالية في البرمجة، وأجورهم منخفضة، ما يجعل الإنسان يستقرّ في هذه البلدان ويستغني عن الهجرة." يختلف العديد من الاقتصاديين مع وصف ما سبق كتوزيعٍ للثروة، فإنفاق الأُسَر والحكومات في العالم النامي الثروات على تعليم الناشئة، ليوظَّفوا كعمالةٍ رخيصةٍ لدى شركات الدول الصناعية، هو في العديد من الأدبيات الاقتصادية مثالٌ كلاسيكيٌّ على "علاقات التبعية والاستغلال". ثم ماذا عن الغالبية العظمى من الأشخاص الذين هم ليسوا من "الزبدة"؟ كيف ستكون حال الغالبية من الناس الذين "لن يُنظَر إليهم" في عصر الثورة الصناعية الرابعة؟ نترك هذه المسألة للشق الثاني من هذا المقال، حول الجانب الاجتماعي-الاقتصادي من القضية، لنتابع شرح د. الجميلي لفرضيته حول التعليم في العصر الجديد:

"التعليم العالي سيصير على مستوىً واحد في العالم كلّه؛ أما المشكلة ففي التعليم الأساسي، والثورة الصناعية الرابعة تحتاج أساساً قوياً (في الأخير). إذا بدأ الذكاء الإصطناعي ببناء البرامج التي تساعد الأطفال على البرمجة وحل المشكلات، ستحصل تسوية (للتفاوت في نوعية التعليم المتاح للأشخاص في مختلف البلدان ومن مختلف الشرائح الاجتماعية).  أتوقّع أن الألعاب التعليمية ستكون متاحةً في كل بيتٍ من بيوت الفقراء بفضل برامج كبرامج الأمم المتحدة. بسبب رُخص التكنولوجيا، سيتعلّم كلُّ طفلٍ في العالم على الحاسوب... نتوقّع أن التعليم سيكون متاحاً للجميع،" يقول د. الجميلي الذي يؤمن أن "الفقراء، بالإصرار والذكاء وتطوير المهارات، سيتمكّنون من التفوّق، لتَوفُّر التكنولوجيا".

 

 

 

حلولٌ تكنولوجية لإدارة مياه الرافدين

 

"تذهب 90% من المياه الواردة إلى العراق إلى الزراعة على النمط القديم، أي الريّ بالتُرع، السائد منذ آلاف السنين... الأهم تغيير طريقة السقي من الترع إلى التنقيط، مع تخصيص عملية الإرواء، حيث احتياج كل شجرة يختلف عن احتياجات الأخرى. يقول الذكاء الإصطناعي لنظام الري متى تحتاج كل شجرة للماء وبأي مقدار، وذلك عبر كاميراتٍ (ثابتة) أو على مسيّراتٍ تطير وتعالج الصور،  لتقييم حاجة كل شجرة من الإرواء،" يشرح د. الجميلي.

"في مدننا الضخمة كبغداد، إعادة تدوير المياه أمرٌ مهمٌ جداً، لكن الأساس هو الحفاظ على دجلة والفرات باستخدام السدّات والنواظم النهرية العاملة بالذكاء الإصطناعي، وعلى طول النهرين... (لهذه المنشآت) أبوابٌ تُفتح وتُسَدّ حسب مستوى المياه... فيكون مستوى النهر هو نفسه على مدار العام؛" بذلك، "يتحوّل الرافدان من نهرين جاريين إلى بحيرتين جاريتين،" يقول د. الجميلي، مشدّداً على أهمية وضع منظومةٍ كهذه أيضاَ عند مصب شط العرب، لمنع اللسان الملحي من أن يدخل مع المد ويقتل المساحات المزروعة.

يلفت د. الجميلي إلى أن تثبيت مستوى المياه في الرافدين على مدار العام يسمح بإعادة العمل بنظام النقل النهري، حيث يصير ممكناً "السفر من البصرة إلى الموصل عبر النهر،" بفضل "نظام الأقفال" أو البوابات النهرية بين المستويات المختلفة من المياه، والتي تعبر منها القوارب التي "ستعمل بالطاقة النظيفة" التي توفّرها "ألواحٌ شمسية تطفو على النهر وتحدّ من التبخّر، فنحافظ على 90% من المياه التي تتبخّر" في العادة.

يشير د. الجميلي في السياق نفسه إلى أهمية إنشاء محطاتٍ للتغذية الاصطناعية للمياه الجوفية، حيث ترصد السدّات الذكية مستوى المياه (بعد تحويل الأنهر إلى "بحيراتٍ جارية")، فيحدّد الذكاء الإصطناعي توقيت بدء تغذية المياه الجوفية، حين يرتفع مستوى النهر، بغرض إعادة تغذية الآبار وبناء الخزين الإستراتيجي المائي للبلاد.

 

تثوير القطاع الصحّي وسائر القطاعات الخدمية

 

يعتمد الأطباء في تشخيص الأمراض على ما يتعلّمونه من الربط ما بين الأعراض ومسبّباتها، يقول د. الجميلي، شارحاً أن بناء قواعد بياناتٍ مركزيةٍ للأمراض وأعراضها، كبناء قاعدة بياناتٍ على مستوى العراق، كمثال، تتيح لأنظمة الذكاء الاصطناعي مساعدة الأطباء في التشخيص، "فيصير لدى الطبيب المتخرّج حديثاً والعامل في الريف قاعدة المعلومات نفسها المتوفرة للطبيب الممارس في المدن الكبرى." كما يساعد الذكاء الاصطناعي على "تخصيص الرعاية الصحية،" فيساعد الطبيب أو الصيدلي في تحديد جرعة الدواء المُثلى، والتي تختلف من شخصٍ إلى آخر،" على سبيل المثال، وفقاً للدكتور الجميلي.

نلاحظ أن مبادئ التنبّؤ (Prediction) والتخصيص (Personalization/Individuation) والتشغيل أو الاستخدام الأمثل (Optimization) هي في أساس عمل جُلّ تطبيقات الذكاء الاصطناعي وسائر التكنولوجيات الأحدث التي تشكّل محرّك الثورة الصناعية الرابعة، وذلك في مختلف القطاعات. بناءً عليه، بإمكاننا تخيّل مختلف التطبيقات التكنولوجية الممكنة في قطاعات التعليم والصحة والنقل والترفيه وسائر القطاعات الخدمية، والقائمة على المبادئ الثلاثة سالفة الذِكر.

 

 

 

 

 

تطبيقات التكنولوجيات الأحدث في القطاعات الإنتاجية

 

"يمثّل عام 2030 بداية النهاية لعصر الإعتماد على النفط عالمياً. نحاول دفع العراق للتحوّل إلى الاقتصاد الصناعي-الزراعي المعتمد على المياه، واستخدام الذكاء الإصطناعي في الزراعة والري الحديث،" يقول د. الجميلي. فما متطلبات هذا التحوّل، وما هي "كلفة الدخول" (Entry Cost) إلى نمط الإنتاج المعتمد على التكنولوجيات الأحدث، وأي نوعٍ من الإستثمارات يتطلّب هذا التحوّل، وما هو وضع العراق خصوصاً في هذا الإطار؟ نتوجّه إلى د. الجميلي بحزمة الأسئلة هذه، وفي بالنا أن القول بانخفاض "تكلفة الدخول" إلى نمط الإنتاج الجديد في عصر الثورة الصناعية الرابعة ينطبق على الدول الصناعية التي تمتلك بالفعل البنى التحتية والسلع الرأسمالية ذات الصلة، وليس الدول النامية التي تفتقر إلى ما سبق ذكره. وما يفاقم الأمر سوءً بالنسبة للدول العربية، على وجه الخصوص، هو الاختلال في هيكل الإستثمارات في تكنولوجيا الذكاء الإصطناعي "وأخواتها" من التكنولوجيات الأحدث، بتركّز هذه الاستثمارات في القطاع المالي أولاً، ثم قطاعات الخدمات غير المرتبطة بالإنتاج الحقيقي أو السلعي، وفق ما تشير إليه بعض الإحصاءات المنشورة. 

يتحدّث د. الجميلي حول هذه المسألة في ما خصّ العراق، حيث "بدأ العمل بالفعل" في مختلف الاتجاهات في هذا الصدد. "نحتاج إلى بنيةٍ تحتية من نوعين: المعرفة التقنية والإرادة_ إرادة الحكومة والشعب، وثانياً ، الأجهزة" أو المعدّات، أي السلع الرأسمالية، يقول د. الجميلي، شارحاً أن الحكومة العراقية تحوّلت من دعم الفلاحين بتوفير البذور والأسمدة وما إلى ذلك من مُدخَلات الإنتاج، بأسعارٍ مدعومة، إلى دعم أولئك الفلاحين فقط الذين يستخدمون الأساليب الحديثة في الري، وذلك بتوفير معدّات الري الحديث وشراء السلع المنتَجة بأسعارٍ مدعومة (كأسلوبٍ للحدّ من التلاعب وإساءة استغلال الدعم)؛ كما تحمي الدولة الإنتاج عبر منع استيراد محاصيل معيّنة في المواسم حين تُنتَج هذه المحاصيل محلياً. وفي الصناعة، يدفع د. الجميلي بسياسة تحفيز ودعم "الهندسية العكسية لكل التكنولوجيات الموجودة في الخارج،" ويُعلن إتفاقه مع وزارة الصناعة على مشروعٍ لتوفير جهازٍ للفلاحين في البادية، على وجه الخصوص، هو عبارةٌ عن مضخّةٍ للمياه الجوفية ومحطة تحليةٍ مصغّرة، يعمل بالطاقة الشمسية، فيسحب المياه من الآبار الجوفية ويفحصها، فإذا كانت مالحةً غير صالحةٍ للري، يحلّي الجهازالمياه، ويُرسلها في شبكة ريٍّ تعمل بالتنقيط. يكشف د. الجميلي أن لدى وزارة الصناعة نموذجٌ صغيرٌ من الجهاز، يسعى لتحويله إلى نموذجٍ إنتاجي.

 

"ليست عصاً سحرية"

 

يبدو جليّاً من كل ما سبق أن الفكرة الرئيسة في تطبيقات التكنولوجيات الأحدث هي رفع الكفاءة أو الاستخدام الأمثل لبُنىً وتجهيزاتٍ قائمةٍ بالفعل أو تحتاج إلى الإستثمارات لإنشائها، خاصةً في قطاعات الطاقة والمياه والإنتاج السلعي؛ وجليٌّ أن التحوّل في العراق وفي الدول النامية عموماً إلى نمط الإنتاج أو أنماط الإنتاج في عصر الثورة الصناعية الرابعة، وفي القلب منها تطبيقات الذكاء الإصطناعي، ينطوي على الإستثمار في البُنى التحتية وفي السلع الرأسمالية، فضلاً عن دعم وحماية قطاعات الإنتاج الحقيقي (السلعي). وبالتالي، فإن التكنولوجيات الأحدث ليست "عصاً سحرية" تستطيع أن تحوّل واقع إقتصاداتنا، التي يطغى عليها النمط الريعي والخدمي غير المرتبط بالإنتاج الحقيقي، إلى "إقتصادات المعرفة" أو"إقتصادات ما بعد الصناعة"، كما يزعم البعض. وعلى أي حال، فإن المفهومَين الأخيرين، وهما واحدٌ عملياً، نشآ (أو نشأا؛ يختلف اللغويون في أيهما أصحّ)[1] لوصف الاقتصادات المتقدمة، وهي نفسها الاقتصادات الصناعية، في "عصر ما بعد الصناعة" (Post-Industrial Age)، علماً أن المفهوم الأخير موضوع خلافٍ كبيرٍ وعميق بين الاقتصاديين، وكاتب هذه السطور ممّن يرون أنه مفهومٌ مخادعٌ إلى حدٍّ بعيد، وينطوي على محاولةٍ لتمويه حقيقة "تقسيم العمل" بين بعض الدول المتقدمة من جهة وبعض الدول ذات الاقتصادات النامية والناشئة من الجهة الأخرى؛ لكن هذا ليس موضوعنا في هذا المقال.

 

توسُّع الهوّة في الإنتاج في ظل الحروب لاحتكار التكنولوجيا 

 

نسأل د. الجميلي رأيه في ما إذا كانت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تحديداً ستساعد الدول النامية على تجسير الهوّة بينها وبين الدول الصناعية في إنتاج المعرفة والتقنيات، وبالتبعية الإنتاج الحقيقي_ كمّاً ونوعاً، أم أن الهوّة ستتّسع؟ يكتسب السؤال هذا أهميةً خاصة في ظل استعار "حروب الرقائق الإلكترونية،" أو الحروب ليس فقط على الريادة في التكنولوجيات الأحدث، بل لاحتكارها، وذلك بين الولايات المتحدة والدول المنضوية في معسكرها، من جهة، وبين الصين وروسيا على وجه الخصوص، من الجهة الأخرى. وقد وصلت مؤخراً نار هذه الحرب إلى دولٍ عربيةٍ كالسعودية والإمارات، بأن حظّرت حكومة الولايات المتحدة على شركة (NVIDIA) بيع هاتين الدولتين أصنافاً من الرقائق المتطوّرة.

يتوقّع د. الجميلي أن تنشأ مستقبلاً "هيئةٌ مشابهة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، تسيطر" على انتشار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي و"تنظّم" استخدامها، قائلاً إن ذلك قد دفعه لحثّ دولٍ عربية على "اتخاذ خطواتٍ" استلحاقية جادة نحو ردم الهوة في إنتاج التكنولوجيا، "وإلا نتخلّف،" أو بالأحرى نزداد تخلّفاً. يرى د. الجميلي أن إنتاج الأجهزة والمعدّات (hardware) يشكّل 5% فقط من عمليات إنتاج التكنولوجيات الأحدث، بينما يشكّل إنتاج البرامج (software) نسبة الـ95% الباقية: "لا نستطيع السيطرة على إنتاج الأجهزة، لأن دولاً كبرى تتصارع عليها،" لكن بإمكان الدول العربية تطوير مهارات "البرمجة وتحليل البيانات والتواصل،" يقول د. الجميلي،  مقرّاً في الوقت نفسه بأن "السيطرة" لمن يملك تكنولوجيا تصنيع الأجهزة كالرقائق الإلكترونية والمستشعِرات، ومبدياً التفاؤل في أن اليوم الذي تنخرط فيه دولنا بالهندسة العكسية آتٍ، وذلك لتوافر الطاقات العلمية العربية في الخارج، ولإمكانية مشاركة هؤلاء المعارف والخبرات مع بلادهم الأم.

 

"حلولٌ إستراتيجية" في القطاعات الإنتاجية

 

يتّضح مّما جاء أعلاه أن د. الجميلي يؤمن بأنه بالإمكان تحقيق الكثير، على مستوى التطوّر التقني والتنمية الاجتماعية-الاقتصادية، ضمن شروط اللعبة التي تناولنا أعلاه، أي تحت سقف سيطرة الدول الصناعية الكبرى على تكنولوجيات إنتاج الأجهزة، وفي مقدّمها الرقائق الإلكترونية المتطوّرة. في هذا الإطار، يتحدّث د. الجميلي عن إسهامه بعددٍ من المبادرات التي تنطوي على "حلول إستراتيجية، لا ترقيعية" لتطوير القطاعات الإنتاجية في العراق، وذلك على قاعدة بناء الكادر البشري المؤهّل، من أبناء وبنات العراق، لا "إستيراد العقول ومن ثم توطينها." ويشدّد د. الجميلي، في هذا السياق، على ضرورة الربط بين مخرجات قطاع التعليم وحاجات القطاعات كافة، لا سيما الإنتاجية. ومن تلك المبادرات مشروعٌ بالشراكة مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، يقضي باستحداث كلّياتٍ لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في ستٍّ من الجامعات الحكومية والخاصة، "ستُعِدّ الجيل الجديد للتطبيقات في جميع القطاعات التي ناقشناها" أعلاه، فضلاً عن تحويل كلّيات الهندسة الزراعية، التي فيها عددٌ قليل من الطلاب، إلى "كلّياتٍ للهندسة الزراعية الذكية... من الصعب تغيير الفلّاحين الحاليين. بدلاً من ذلك، فلنشجّع الفلّاح على أن يصبح إبنه مهندساً زراعياً، لا فلاحاً عادياً،" لنُحدِث على المدى المتوسط "طفرةً نوعية" في نمط الإنتاج الزراعي في البلاد، وفقاً للدكتور الجميلي الذي يسهب في شرح مقترحاتٍ لتشغيل متخرّجي الكلّيات المستقبلية هذه، أو دعمهم لتأسيس مشاريع تعاونية بين مجموعاتٍ منهم، بالتعاون مع الحكومة وبعض رجال الأعمال.

 

 

 

 

 

نموٌّ بالقيمة المطلقة، وتخلُّفٌ نسبيّ

 

من جهته، يرى د. حماده أن من شأن تطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تُحدِث نموّاً إقتصادياً "بالقيمة المطلقة"، مُقاساً بنمو الناتج المحلي الإجمالي، شارحاً أن "الدول المتقدمة (الصناعية) ستتطوّر في كافة القطاعات، وستكون كلفة إنتاجها (للسلع والخدمات) أقل، وذلك لتوفّر البنى التحتية والقوى العاملة الكفؤة والسلع الوسيطة وقنوات تصريف الإنتاج،" فتكون الأكثر إستفادةً من بين الدول من التكنولوجيا الجديدة، وتصبح بالتالي أكثر تقدماً، موسّعةً الهوّة في الإنتاج، والتي تفصلها عن الدول النامية وذات الاقتصادات الناشئة. يعني ذلك أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الدول النامية "يمكن أن تؤدي إلى تطوّرٍ بالإقتصاد، إلى حدٍ ما، وبالقيمة المطلقة"؛ لكن "بالمفهوم النسبي"، فالدول هذه ستتخلّف عن تلك الصناعية، "حتى ولو ساعدت (التطبيقات المذكورة) بعض القطاعات (على التطوّر والنمو)، كتلك غير الزراعية أو الصناعية"، أو غير المنتجة للسلع والخدمات الحقيقية.

 

"جيوش العاطلين عن العمل" وتفاقم اللامساواة

 

ربما كانت نسخة العام 2016 من "المنتدى الاقتصادي العالمي" هي التي أطلقت مصطلح "الثورة الصناعية الرابعة" بقوّة في الفضاء الإعلامي، وذلك للمكانة التي يحتلّها الحدث عالمياً، من منظور مؤيّديه والمناهضين له (من مثل "المنتدى الاجتماعي العالمي") على حدٍّ سواء. والمنتدى هذا، كما هو معروفٌ جيّداً، لا شُبهةً "يساريّةً" عليه إطلاقاً، بل دائماً ما يُنظَر إليه على أنه يمثّل "المليار الذهبي" أو "الواحد في المئة" من سكان الأرض الذي يستأثرون بأكثر من نصف الثروة العالمية. رغم ذلك، فقد كان السؤال الأبرز في المنتدى في ذلك العام، وعلى لسان مسؤول الإعلام في المنتدى، فون ماثوروس، هو "كيف ستُطبَّق التكنولوجيا (الأحدث، وأبرزها الذكاء الاصطناعي) في أشكالٍ تُسهِم في تحقيق النمو الدامج، عوضاً عن مفاقمة البطالة وتفاوت المداخيل؟" أما مؤسّس المنتدى، كلاوس شواب، واستناداً إلى نتائج مسحٍ غطّى 15 من الاقتصادات المتقدمة والناشئة، تضمّ نحو 1.9 مليار من العمال، أو 65% من إجمالي القوى العاملة في العالم، فقد أعلن أن الثورة الصناعية الرابعة ستقضي، في الاقتصادات هذه وفي المدى المنظور، على نحو 7 ملايين من فرص العمل، وتخلق مليونَي (2) فرصة عملٍ جديدةٍ فقط، وذلك في مجالات الرياضيات والبرمجة والهندسة على وجه الخصوص[2].

بعد نحو سبعة أعوامٍ على انعقاد ذلك المنتدى، ها نحن نشهد استبدال الآلات العاملة بالذكاء الاصطناعي لعاملين كُثُر في شتى القطاعات وعلى مختلف درجات المهارة، بما في ذلك الوظائف التي تتطلّب مهاراتٍ عالية، كوظائف المهندسين والأطباء والطيّارين وحتى المحامين! يفرض ذلك السؤال التالي: إن لم نكن قد دخلنا بالفعل عصر "الحكومات غير الحكومية"، على حدِّ تعبير د. عادل سماره، وإن كان ثمة حكوماتٍ لا تزال ترى في اتّباع سياساتٍ عامةٍ توفّر الوظائف مسؤوليةً أساسيةً ملقاةً على عاتقها، أو حتى شرطاً أساسياً لمشروعيّتها، فهل لنا أن نتلمّس الملامح العامة لسياساتٍ عامةٍ من شأنها إنقاذ ملايين العمال من البطالة التي لن تؤدّي إلا إلى المزيد من التطرّف والعنف وتغذية الصراعات والحروب؟

"نحن نتكلّم عن خسارة وظائف ماهرة وغير ماهرة في كل القطاعات. المشكلة أعمق من توسيع الهوّة بيننا وبين سائر الدول، فالأدهى توسّع الهوّة بين الطبقات الإجتماعية في الدول نفسها، في العالم العربي وفي غيره... ستندثر (الكثير من) المهن، والكلام حول إعادة تدريب القوى العاملة وتوجيهها نحو وظائف جديدة أمرٌ سهل (وهو يتطلّب استثماراتٍ ضخمة، على أي حال_ المحرّر)، ولكن ليس بمقدور الجميع إعادة التموضع مهنياً، والحديث حول الأمر أيسر بكثيرٍ من الفعل،" يجيب د. حماده، متسائلاً: "هل يكمن الحل بدعم قطاعاتٍ كثيفة الاستخدام لليد العاملة؟ وأيُّ قطاعاتٍ هي تلك التي لن تغزوها الأتمتة المدعومة بالذكاء الاصطناعي؟... التكنولوجيا الجديدة غزت الزراعة والصناعة، وهي كثيفة الإستخدام لليد العاملة،" يتابع د. حماده، قائلاً، "أرى جيوشاً من العاطلين عن العمل، ونحن متجهون سريعاً إلى ذلك... (صحيحٌ أن) واجب الحكومات أن تخلق وظائف (تعوّض تلك التي دمّرتها الأتمتة)، لكن هل ستكون قادرة ًعلى ذلك، والذكاء الإصطناعي يدمّر الوظائف حتى في القوى الأمنية والعسكرية؟"

نموذج دبي وقابلية "الاستنساخ"

 

يُتوقَّع أن تُحدِث تطبيقات التكنولوجيات الأحدث في مدينة دبي أعلى إضافةٍ نسبية إلى الناتج المحلي لدولة الإمارات، من بين جميع الدول العربية التي وضعت برامج أو استراتيجياتٍ تكنولوجيةٍ شبيهة. وفي سياق "العصف الذهني" لمحاولة استبيان حلولٍ ممكنة لموجة البطالة العالمية الآتية، والتي يُرجَّح أن تكون غير مسبوقةٍ تاريخياً، نسأل د. حماده حول إمكانية أن "تستنسخ" دولٌ عربية كالعراق وسورية ومصر والسعودية، كأمثلة، نموذج مدينةٍ كدبي، يقوم اقتصادها أساساً على الخدمات (المالية واللوجستية والسياحية، إلخ.) "لا، أبداً... حتى دبي ثبُت أن اقتصادها هش؛ في الأزمة المالية العالمية (2007-2009) كانت على وشك الإفلاس،" يجيب د. حماده، مضيفاً: "عموماً، فإن الإقتصادات القائمة على الخدمات والسياحة فقط... هي أكثر الإقتصاديات هشاشة، بينما تلك الصناعية صلبة... العراق دولةٌ شاسعة، ذات قدراتٍ بشرية عظيمة وموارد، فليس مطلوباً أساساً أن يكون معظم اقتصادها خدمياً." يشرح د. حماده أن الخدمات المصرفية والتأمينية ظهرت أساساً لخدمة القطاعات الإنتاجية، الصناعية في المقام الأول، وأيضاً الزراعية، مؤكداً على أن الاقتصادات القائمة على الخدمات تكون "هشةً جداً،" وعلى أن الطروحات القائلة بـ"استنساخ نموذج دبي في بلادنا ليست جدية، وغير واردة، أو غير ممكنة أساساً."

 

خاتمة

 

بعد جولة الأفق الواسعة هذه، يخيّل إلينا أننا نعود إلى المربّع الأول، حيث يطغى المجهول واللا-يقين على الصورة العامة: يصعب أن نتصوّر حدوداً للتغييرات الجذرية التي لا بد ستطال واقعنا بكلّ أبعاده، فاتحةً آفاقاً تبدو أكثر من واعدة، وفارضةً في الآن نفسه تحدّياتٍ مهولة على البشرية جمعاء. هكذا تبدو لنا الصورة في مطلع عصر الثورة الصناعية الرابعة. وفي العالم العربي الذي يواجه المخاطر الوجودية من كلّ حدبٍ وصوب_ على مستوى الأمن المائي والغذائي وتغيّر المناخ وأزمات الهوية ومختلف أشكال الانقسامات المجتمعية، الأفقية والعمودية، وتحدّيات التنمية واللحاق بالعصر، فضلاً عن الاحتلالات العديدة وعلاقات التبعية_ نحن أحوج ما نكون إلى جرعةٍ من التفاؤل (العلمي)، ختم بها د. الجميلي لقاءنا معه، ردّاً على سؤالنا حول واقعية الافتراض أن بمقدورنا، في العالم العربي وعالم الدول النامية عموماً، تجسير الهوة التي تفصلنا عن الدول المتقدمة في مجال إنتاج المعرفة والتكنولوجيا والسلع والخدمات الحقيقية، وإن ضمن "شروط اللعبة" حيث تحتكر الدول الصناعية الكبرى إنتاج الأجهزة التكنولوجية الأساس والأكثر حساسية، كالرقائق الإلكترونية والمستشعرات فائقة التطوّر:

"نعم، (أنا متفائلٌ بذلك) لأن الإنسان العربي لديه الإصرار، وليد المعاناة. آينشتاين يقول إن الخيال أهم من المعرفة. ونحن لدينا خيالٌ جميل. ضياء الجُمَيلي يضيف أن الإصرار يمكّن من تحويل الخيال إلى حقيقة. أؤمن إيماناً كاملاً بأن الشعوب العربية التي خلقت حضاراتٍ كبيرة وقدّمت الكثير للعالم ستتمكّن، في عصر الثورة الصناعية الرابعة، من العودة. الثورة هذه تعتمد على الإصرار وحَلّ المشكلات... واللعبة، كما سمّيتَها، تعتمد على العقل والإصرار، ونحن لدينا العقل والإصرار!"

 

 

بوابة التخصصات