وضعت دار النشر في الجامعة الأمريكية في بغداد كتابَين جديدَين بين يدَي القارئ العربي، مميَّزَين بغوصهما العميق في مسائل كبرى تحتل مكاناً مهماً في حياة أمم الشرق والعراق على وجه التحديد. الإصدار الأول، وعنوانه آسيا في وجه الغرب، من تأليف داريوش شايغان وترجمة حيدر نجف، وهو “عملٌ محوريٌّ يعيد تصوُّر العلاقة بين الحضارات، ويدعو إلى صحوةٍ روحيةٍ وثقافيةٍ في آسيا، تُمكِّن (الأمم الآسيوية) من محاورة الغرب من موقع الندّية، لا التبعية”. أما الإصدار الثاني، وعنوانه استعادة الماضي المنهوب: علم الآثار وبناء الأمة في العراق الحديث، من تأليف ماغنوس بيرناردسون وترجمة أحمد باسم سعدون، فهو “قراءةٌ ضروريةٌ لفهم كيف أن علم الآثار في العراق لم يكن قط يهجس بالآثار القديمة وحسب، بل كان أداةً قويةً في تشكيل الهوية الوطنية وتحقيق السيادة وبعث الشعور بالفخر بالثقافة الوطنية في وجه الاستغلال الكولونيالي”.

يُعَدُّ داریوش شایغان من المفكرين الإيرانيين القلائل الذين عادلوا اطلاعهم على الفلسفة الغربية ونتاجها الحضاري والمعرفي باهتمام مماثل بالفلسفات والديانات الآسيوية. وكتاب آسيا في وجه الغرب هو الكتاب التأسيسي ضمن أعمال شايغان، إذ تضمن النواة الأولى لأفكاره الرئيسة ما قبل الثورة الإيرانية في عام 1979. ونظرية شايغان في هذا الكتاب لم تكن معاديةً للغرب، بل هدفها إحياء الروح الآسيوية، وعلى الخصوص الروح المعنوية الهندية والإسلامية؛ فالكاتب يطمح لتلاقح الثقافات، ويؤكد أن لا ثقافةً “نقيّةً” في عصرنا الحاضر، مبيّناً في الآن نفسه أنّ النزعة المعنوية أو الروحية تمثل امتيازاً شرقياً على الغرب، رغم التطوّر المادي الهائل للأخير.

يرى شايغان أنّ الفكر الغربي، على مدى ثلاثمائة عام، قد انحدر من التفكير الحدسي إلى الرؤية التقنية للعالم، ومن التطلع إلى الآخرة إلى عبادة التاريخ. وقد أدى هذا التحوّل إلى العدمية وإلى زوالٍ تدريجيٍّ للمعتقدات كافة، تلك التي تُعَدُّ جزءاً من الإرث الروحي لحضارات آسيا. ينتهي المؤلّف إلى أن المجتمعات الآسيوية، حتى تصل إلى حياةٍ صحيةٍ وسليمة، يجب أن تنهل من تراثها العريق، وألا تنخدع بمظاهر الحضارة الغربية، وأن تتجنّب التغريب، وأن عليها أن تسعى جاهدةً لتفادي الوقوع في “فخ الغفلة” الذي يحذّر منه الكاتب باستمرار.

أما كتاب استعادة الماضي المنهوب: علم الآثار وبناء الأمة في العراق الحديث، فيتناول الطرق التي تداخل فيها علم الآثار والسياسة في العراق إبان حقبة الاحتلال البريطاني والسنوات الأولى للدولة العراقية، قبل الحرب العالمية الثانية. يستهل بيرناردسون كتابه بتسليط الضوء على عمل علماء الآثار البريطانيين الذين أجروا تنقيبات مكثفة في العراق وأرسلوا اكتشافاتهم إلى المتاحف الأوربية. ثم يتعقب المؤلف كيف قاد الشعور المتنامي بالانتماء للأمة لدى العراقيين إلى مواجهة البريطانيين بشأن قانون الآثار وتقسيم الاكتشافات الأثرية بين العراق والمنقبين الأجانب، فيوضح كيف أن سيطرة العراق على تراثه الآثاري كانت مرتبطةً بشكلٍ مباشرٍ بتوازن القوى السياسية، وكيف ازدادت هذه السيطرة مع انتقال السلطة إلى الحكومة العراقية. وأخيراً، يناقش بيرناردسون كيف وظّف القادة السياسيون العراقيون علم الآثار والتاريخ لإضفاء الشرعيّة على الدولة وممارساتها السياسية.

وكان النهب الذي قد تعرّض له المتحف العراقي في نيسان 2003 قد أثار احتجاجاً عالمياً على فقدان القطع الأثرية التي تُعد جزءاً من التراث الثقافي الإنساني. وعلى الرغم من أن الخسائر كانت غير مسبوقة، فإنّ هذا النهب للمتحف الوطني لم يكن يمثّل المرة الأولى التي يُنهب فيها الإرث العراقي أو يُستخدم لأغراض سياسية. فمنذ بداية علم الآثار علماً حديثاً في القرن التاسع عشر، بدأ الأوربيون بالتنقيب عن الآثار العراقية واستملاكها، إذ كانت تمثّل بقايا مهد الحضارة الإنسانية. ومنذ تأسيس العراق في عام 1921، استخدمت الدولة الحديثة علم الآثار لصياغة صلةٍ بينها وبين الحضارات القديمة لبلاد ما بين النهرين والإمبراطوريات الإسلامية، ومن ثم تنمية شعورٍ بالانتماء للأمة عند العراقيين من مختلف الطوائف والأديان.